اتسعت العيون كلها، في ذهول مستنكر، والكل ينظر إلى الدكتور "جلال"، والشك يسيل مع النظرات سيلاً..
وبكل الغضب، هتف الدكتور "سمير":
- كذب.. هذا كذب.
أجابه الدكتور "جلال" في عصبية:
- هل تحب الاطلاع على الأوراق، التي تثبت قولي هذا؟!
هتف "عرابي" في غضب:
- ليس قولاً، بل هو اتهام حقير.
صاح الدكتور "جلال":
- الأوراق في مكتبي، لمن يرغب في مطالعتها، وأنا مستعد لتحويلها إلى الطب الشرعي؛ لإثبات صحة توقيع الدكتور "ثروت" عليها.
أشار "أمجد" بيده للجميع، يدعوهم إلى الصمت، وهو يسأل "جلال" في صرامة:
- لماذا تشاجر معك الدكتور "ثروت" إذن بشأن هذا، ما دام متورطاً فيه؟!
أجابه "جلال" في عصبية:
- لأن أحدهم هدده بكشف السر، وأراد تبرئة نفسه، وإلقاء التبعة كلها على كاهلي..
قال "أمجد" في صرامة:
- ولهذا قتلته..
صرخ "جلال":
- إنني لم أقتل أحداً.
رفع "مندور" سبَّابته، في هذه اللحظة، وهو يقول:
- طبيب.. قناع.. قتل..
كلماته هذه فجَّرت كل ما تبقى من أعصاب الدكتور "جلال"، فاندفع نحو "مندور"، صارخاً:
- أنت.. أنت المسئول عن كل هذا..
تراجع رجل الأعمال السابق في مقعده المتحرِّك، وانقضّ عليه "جلال" في شراسة شديدة، ودفع المقعد، صارخاً:
- أنت السبب..
أسرع "مندور" يضغط الفرامل اليدوية لإطاري مقعده المتحرِّك، حتى لا يسقط أرضاً، أو يندفع بمقعده، وهو يصرخ:
- النجدة.. النجدة..
وهنا وثب "أمجد" نحو الدكتور "جلال"، وجذبه من ياقته، هاتفاً:
- أهذا اعتراف صريح أم ماذا؟!
استدار إليه "جلال" في شراسة، وكال له لكمة كالقنبلة، وهو يصرخ في انهيار:
- ابتعد أنت أيضاً..
سقط "أمجد" أرضاً، مع عنف الضربة، ولم ينتظر "جلال" سقوطه، وهو يثب نحو "مندور"، ويقبض على عنقه بكفيه، صارخاً:
- لولاك ما حدث كل هذا.. مت.. مت..
ولكن الدكتور "سمير" اندفع نحوهما، وهوى على مؤخرة عنق الدكتور "جلال" بضربة قوية، ارتجَ لها جسد هذا الأخير، قبل أن يسقط أرضاً فاقد الوعي، وسعل "مندور" في شدة، وهو يغمغم:
- أش.. أشكرك يا دكتور "سمير"..
نهض "أمجد" في هذه اللحظة، وهو يدعك ذقنه في موضع الضربة، قائلاً:
- أظن أن هذا يحسم الأمر..
تساءل الدكتور "عرابي"، في شيء من اللهفة:
- هل.. هل تعتقد أنه القاتل؟!
تساءل "أمجد":
- ألا يبدو هذا واضحاً؟!
استعاد "سمير" ابتسامته الخبيثة، وهو يقول:
- بالتأكيد..
وهنا اندفع "نادر"، يقول في عصبية:
- ليس بالضرورة..
سأله "أمجد":
- ماذا تعني؟!
أجابه، وعصبيته تتزايد:
- أعني أن الرجل وجد نفسه متهماً، في جريمة قتل، ففقد أعصابه، وفعل ما فعل، وهذا ليس دليلاً على أي شيء.
قال "سمير" في خبث:
- هذا من وجهة نظرك، ولكن..
(*) غسيل الأموال: مصطلح يُطلق على عملية إدراج الأموال، التي تم جنيها بوسائل غير شرعية، في قنوات شرعية رسمية، بحيث تبدو وكأنها أموال قانونية تماماً.
قاطعه "نادر" في حدة:
- لماذا تتحدث طوال الوقت، وكأنك بريء من التهمة، براءة الذئب من دم ابن "يعقوب"؟!.. ألست جزءاً من هذه المشكلة؟
انتفض جسد "سمير"، وهو يقول:
- أنا؟!
أجابه الدكتور "عرابي" في غضب:
- بالتأكيد.. أتظننا نجهل من هدَّد الدكتور "ثروت" بكشف الأمر؟
قال في حدة:
- أنا لم أفعل هذا..
صاح به "نادر":
- بل فعلت.. لقد شاهدتك تتحدَّث معه، قبل ساعات قليلة من مصرعه.. صحيح أنني لم أسمع حديثكما، ولكن وجه الدكتور "ثروت" احتقن بشدة، مما يوحي بأن ما سمعه منك لم يرق له أبداً..
لوَّح "سمير" بذراعه، هاتفاً:
- هراء.. مجرد استنتاج سخيف..
قال الدكتور "عرابي"، في صرامة عصبية:
- وماذا عن تواجدك في مكتبه، قبيل مصرعه مباشرة؟!
احتقن وجه "سمير"، وهو يقول:
- مجرد مصادفة..
أجابه "أمجد" في صرامة:
- ولكنه يجعلك آخر من رآه حياً..
ارتبك "سمير" بشدة، وقال:
- ولكنني لم أقتله.. أقسم إنني لم أفعل..
سأله "أمجد":
- ماذا قلت له إذن؟!
ازدرد "سمير" لعابه في صعوبة، وهو يدير عينيه في وجوههم، قبل أن يقول:
- لقد أخبرته أنني أعلم بأمر المستشفى الخاص، وبأن بعض رجال الأعمال يمولونه سراً، كوسيلة لغسيل أموالهم القذرة (*)، و…
بتر عبارته دفعة واحدة، فسأله "أمجد" في حزم، لم يخلُ من رنة لهفة:
- وماذا؟!
تردَّد "سمير" لحظة، ثم قال:
- وبأنه يساعد بعض رجال الأعمال، بوسائل غير مشروعة؛ ليتهربوا من أحكام قضائية، أو ديون باهظة..
انعقد حاجبا "أمجد"، وهو يقول:
- إنها اتهامات بالغة الخطورة..
هتف "سمير":
- بالطبع..
ثم استدرك في عصبية:
- ولكنها لا تبرِّر واقعة قتل..
سأله "أمجد":
- ما الذي تعنيه بهذا؟!
أجابه في سرعة:
- حديثي أخافه، وجعله يسعى لإرضائي بأية وسيلة، فلماذا أقتله؟!.. المفترض والحال هكذا، أن تكون حياته أكثر فائدة لي من موته..
انبرى "مندور" يقول فجأة:
- موت.. طبيب.. قناع..
انعقد حاجبا "أمجد" أكثر، وهو يشير إليه، متسائلاً:
- أحالته بهذا السوء بالفعل؟!
هزَّ "نادر" رأسه، قائلاً:
- إنها لم تكن أبداً بهذا السوء.. ربما هي صدمة وقوع جريمة القتل أمام عينيه؛ فهو يتصرَّف كمعتوه، وليس كرجل مصاب بفقدان ذاكرة عشوائي..
سأله "أمجد" في اهتمام:
- هل تعتقد أنه لو تجاوز الصدمة، سيمكنه إرشادنا إلى ما يفيد، من كشف القاتل؟!
صمت "نادر" بضع لحظات مفكراً، قبل أن يجيب في حذر:
- ربما!
انفرجت شفتا "أمجد"، ليلقي سؤالاً آخر، ولكن فجأة، وكما يحدث في أفلام السينما، تداعت في رأسه مجموعة من المشاهد والكلمات..
ثم تركَّز ذهنه على كلمة..
كلمة واحدة، لم يدرِِ كيف لم ينتبه إليها في حينها..
كلمة كشفت أمامه اللغز كله..
ودفعة واحدة..
* * *
(تابع البقية في العدد التالي)