( توقفت بسيارتي في إشارة المرور ،
طال الانتظار ،
امتدت يدي إلى المرآة العاكسة أمامي أعدل من زاويتها ،
نظرت لوجهي الذي صبغه ضوء الإشارة الحمراء بالحذر ،
طفل صغير هناك يتسلل بين السيارات ،
يحمل علب المناديل الورقية ،
يتوسل لهذا و ذاك ، لعل أحدهم يجبر خاطره بشراء إحداها ،
مر شريط الذكريات أمامي ،
وجدتني هناك بين الحقول محني الظهر أنا و بعض أقراني الفقراء ،
نتسلل بين نباتات القطن نقطف الأوراق التي وضعت الديدان عليها بيضها ،
نضعها في أكياس القماش المعلقة برقابنا ،
الشمس تلفح الرؤوس ،
وقف ( حضرة الخولي ) غير بعيد عنا يلوح بخيزرانته مهددا بينما يستظل بمظلته التي يحملها له الواد ( حمودة ) ابن أخته ( هنومة ) ، أخذ يصرخ فينا )
ـ شهل ياد يا ابن ( المسقعة ) أنت و هو ، عاوزين نخلص الفدان ده قبل الضهر .
( أخذت أردد هامسا )
ـ سيد أوبح ، سيد أوبح ( هكذا نطلق عليه )
( حاول رفاقي كتم ضحكاتهم التي بدأت تتأجج بصدورهم ، نظرت خلسة إلى رفيقي بجواري فإذا بالعرق يتصبب منه بغزارة ،
همست دون أن ألتفت إليه )
ـ مالك ياد يا طه ؟
ـ عطشان يا محمد ، خلاص مش قادر ، ها أموت...
ـ طب ما تستأذن من ( سيد أوبح ) و تروح تشرب .
ـ خايف أقوله ليمشيني و يخصم مني النهارده كمان ، اسكت اسكت على اللي أمي عملته في امبارح لما روحت لها من غير فلوس .
ـ قال إيه اللي رماك ع المر ؟
( نقرات على زجاج سيارتي المغلق سحبتني من بين حقول الذكريات ،
نظرت جانبي و إذا بطفل أشعث أغبر يتصبب عرقا ،
بائع المناديل ،
مد يده الواهنة بإحدى العلب ،
فتحت زجاج النافذة فبادرني )
ـ و النبي تجبر خاطري يا بيه ، و الله العظيم م الصبح ما بعت و لا علبة ...
ـ تعالى لف ...
ـ ها تشتري ؟
ـ حط كل اللي معاك على الكرسي ورا .
( فتح الطفل الباب الخلفي و وضع ما يحمله )
ـ ستين جنيه بس يا بيه عشان خاطرك ...
ـ طب لف تعالى اركب .
ـ لأ معلش بالسلامة أنت ، أصلي لازم أعدي على أخويا قبل ما أروح .
( أبواق السيارات من خلفي تطالبني بالتقدم )
ـ تعالى اركب و ها نعدي عليه سوا ، اطلع اطلع .
( التف الطفل في خفة و ركب إلى جواري ، بينما أخرجت يدي معتذرا )
ـ خد .
ـ إيه ده يا بيه ؟ ما فيش معاك فكة ؟
ـ لأ مش عاوز باقي ، خدها كلها .
ـ ميت جنيه بحالها ؟
ـ مش خسارة فيك .
ـ تشكر يا ذوق ، روح الله يسترك دنيا و آخرة ، و الله ما أنا عارف أقول لك إيه .
ـ ما تقولش حاجة ، هو أخوك بيشتغل فين ؟
ـ عند العمارة العالية اللي هناك دي ...
ـ و بيشتغل إيه بقى ؟ بيبيع منادل برضه ؟
ـ لا ده واد مية مية و يعجبك ، مش خايب زيي ، ده مناول قد الدنيا ...
ـ مناول ؟
ـ أيوة ، مرة ورا نقاش مرة ورا بنا ، أهي بتفرج ، و أهو بيتعلم له صنعة ...
ـ طب و المدرسة ؟
ـ مدرسة إيه يا بيه ؟ ما تصلي ع النبي ف قلبك ...
ـ اللهم صل عليك يا نبي ، أفهم من كده إنكم مش في مدارس أصلا ؟
ـ و ها ناكل و نشرب أنا و أمي و أخواتي السبعة منين إن شاء الله ؟
ـ أيوة بس أنت صغير ع الشغل لسه و القانون بيمنع شغل الأطفال اللي في سنك .....
( انفجر الطفل في الضحك )
ـ شي لله يا قانون ، و النبي تقول للقانون بتاعك ده ينقطنا بسكاته و يتلهي على عينه ، هو القانون ده لا بيرحم و لا عاوز رحمة ربنا تنزل ؟
بذمتك قانون إيه ده اللي عاوز يجوعني و يعريني أنا و أمي و أخواتي السبعة ؟
و إلا تكونش فاكر إنه بقى بسلامته هو اللي ها يأكلنا و يلبسنا و يصرف علينا ؟
ـ لأ طبعا ، بس المفروض إن أبوك هو اللي يصرف عليك و على إخواتك ...
( ضحك الطفل ساخرا )
ـ و تفتكر يعني الكام ملطوش اللي كان بياخدهم ( الله يرحمه ) كانوا ها يكفونا عيش حاف ؟
ـ هو أنت أبوك ميت ؟
ـ أيوة ، بعيد عنك وقع من على السقالة م الدور الرابع ها ها ها ...
( أخذ الطفل يضحك )
ـ لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، طب و هي دي حاجة تضحك ؟
( حاول الطفل السيطرة على ضحكاته فلم يستطع )
ـ و هو فيه إيه في الدنيا دي ما يضحكش يا بيه ؟ إنت ما سمعتش اللي بيقول لك ، هم يبكي و هم يضحك ؟
ـ طب و إيه اللي يضحك هنا ؟ مش فاهم .
ـ أصل أبويا الله يرحمه لما وقع م الدور الرابع ، نزل على عربية نقل شايلة أكياس قطن كانت واقفة تحت العمارة ها ها ها ....
ـ سبحان الله ، ها ها ...
( فلتت مني الضحك على وقع ضحكاته )
ـ ها ها ، نزل مش مصدق نفسه و قعد يشكر السواق و يبوس فيه و يحمد ربنا إنه نجاه م الموت ، ها ها ها ،
و قال إيه راسه و ألف سيف إنه لازم يجيب للسواق حاجة ساقعة ،
السواق يقوله : يا عم خلاص حمد الله على سلامتك ...
( أخذته حالة هيستيرية من الضحك )
أبويا يقوله : و الله لا يمكن لازم أجيب لك إزازة كاكولا ..ها ها ها ....
السواق يقوله : يا عم مش مستاهلة ، المهم إنك بخير ...
و ده راسه و ألف سيف يعدي الشارع يجيب له الكاكولا ، ها ها ها .....
و لسه بيعدي الشارع ... هاها .. هاها ... هاها ... ( إزدادت ضحكاته إلا أن الدموع بدأت تفر من عينه ) قامت جاية عربية طايرة زي الصاروخ ... و قامت خبطاه مموتاه .. هاها ......
( عندها لم أتمالك نفسي فانفجرت في الضحك المختلط بالبكاء ، حاولنا السيطرة على أنفسنا و لا فائدة ،
لم أجد إلا سؤال واحد يلح على لساني ، حاولت منعه و حاولت ، ففشلت ،
عندها دست على المكابح بكل قوة ،
تعالت صرخات العجلات حتى توقفت السيارة ، فبادرته بسؤالي )
ـ طب و صحته عاملة إيه دلوقتي ؟؟؟؟؟
( انفجرنا في الضحك و البكاء حتى اختفى الضحك رويدا رويدا و تبقى البكاء )
محمد عبد المحسن سنجر غير متواجد حالياً رد مع اقتباس