توقفت العربة أمام بوابة البيت الكبير. كان على السائق ان ينزل منها ليفتح البوابة ومن ثم يقودها إلى الداخل. رحت أراقبه يدفع فردتي البوابة بعزم وبكلتا يديه فقد كانت تتسع لمرور هذه العربة ذات الحصان الواحد. كنت أعرف البيت ولكن من الخارج فقد كانت أمي تتعمد المرور في نفس الشارع في بعض الأحيان أثناء خروجنا للنزهة. كان للبيت جدار عالٍ يحجب أجزاءه الداخلية وباحتيه الواسعتين عن أعين المتطفلين من المارة، كما أن الجدار لم يكن يحتوي على نوافذ أما بوابته فقد كانت تشبه بوابة السجن أو مدخل ثكنة الدرك عند سفح القلعة. وعندما أصبحت في التاسعة قالت لي أمي ونحن نمر بحذاء الجدار العالي إنه في هذا البيت يسكن جدي وجدتي وكل أعمامي وعماتي وأزواجهم وأولادهم. ومنذ ذلك اليوم تحول البيت الكبير إلى لغز غامض بالنسبة لعقلي الطفلي وأصبحتُ أرجوها أن نمر في الشارع لألقي في كل مرة نظرات فاحصة إلى حجارته وبوابته التي لم أرها مفتوحة ولا مرة واحدة. كنت أتعمد البطء في السير لعل أحداً من أقاربي يفتح الباب الصغير ضمن البوابة والمخصص لمرور الأشخاص ولكن، للأسف ظل ما وراء الجدار يشبه إلى حد كبير ذلك المكان الذي ذهب اليه أبي بعد أن تلقى طلقة في صدره فقالوا إنه مات.
استطاع السائق فتح البوابة الواسعة ساعده في ذلك اثنان من الخدم ثم عاد وأمسك بلجام الحصان وقاد العربة إلى الداخل بينما كنت أتأبط حقيبتي أخفي بها وجهي استرق النظر إلى ذلك العالم المجهول الذي سيصبح بيتي. كنت خائفاً مما ينتظرني، أنا ابن الثالثة عشرة الذي لم يتبق لي أحد في هذه الدنيا سوى أمه. ولكنهم انتصروا عليها. كانوا يطالبون بي بعد مقتل أبي ولكن أمي كانت ترفض الانصياع لهم. كان ساكنو البيت الكبير يرسلون رجلاً مسناً ومحترماً يدعى الحاج صالح ليفاوض أمي. ظل هذا الرجل الطيب يأتي ويروح عارضاً البدائل عني ولكنها كانت ترى فيّ أغلى ما في الدنيا. كنت بدوري أخاف أن تقبل ولم أكن أعِ معنى ما كان يردده الحاج صالح وهو أن العائلة تريد ابنها.كنت ابن أمي فما معنى أن أكون ابناً لعائلة تسكن بيتاً كبيراً له جدار عالٍ يزيده غموضاً على غموض؟ أخيراً، وافقت أمي بعد أن سمعت بأذنيها فتوى الشيخ القدير الذي يحتل زاوية في الجامع الكبير محاطاً باستمرار بالأتباع وطلاب علم الشريعة. ما دفعها أيضاً للموافقة هو أنهم هددوها بخطفي.
كان جيش من الأولاد والبنات قد تجمع في الباحة الخارجية ليشاهد قدومي وقد لاحظت أنهم يسترقون النظر أيضاً إلى الخارج قبل أن يفلح الخادمان في إعادة إغلاق البوابة، فقد كنت الصبي الغامض القادم من الخارج، الذي هو لغز بالنسبة إليهم، إلى الداخل الذي هو لغز أعظم بالنسبة إلي.
أُمرت بالجلوس في إحدى الغرف القريبة من المدخل وأغلق علي الباب. كانت غرفة واسعة مليئة بالمفروشات حتى العتبة بينما كانوا قد أحكموا إغلاق النوافذ فتسربلت في عتمة خفيفة لم يبددها ضوء النهار المتسلل من الطاقات العلوية. جلست على كنبة ذات فرش نفيس وأبقيت يديّ تطوقان حقيبتي التي كانت تحوي كل متاعي في هذه الدنيا.
تعرف أبي بأمي في مدرسة الفرنسيسكان. كانت تكبره بعدة سنوات وكانت مسيحية تدرّس فيها مادة اللغة الفرنسية. أحبها الوالد كما كانت تقول لي وهي تزرف دمعتها. كان يرتاد المدرسة ممثلاً لمحلات جدي الذي كان متعهدَ تقديم المواد الغذائية للمدرسة. قالت أمي إنه كان رقيقاً وكانت الأرقام تتأوه عندما كان يقوم بجرد الحسابات. أحبته هي أيضاً بسبب رقته وتأثرها بجرس صوته وعندما أعلن رغبته في خطبتها قامت عليه الدنيا. تحول البيت الكبير إلى جهنم فقد كفر أبي حسب رأيهم. ترك أبي البيت وتزوج مدرسة اللغة الفرنسية. كان يحبها حقاً فقد كان يسرع إلى البيت البسيط الذي استأجراه ليضمها ويقبلها. لم يكونا يأبها لي وقد اعتدت على عناقهما وكنت حين أستيقظ ليلاً للذهاب إلى الحمام كنت أراهما جالسين يتحدثان همساً ورأسها على كتفه. كان البيت الكبير قد تبرأ من ابنه الذي تمرد على السيد ألا وهو جدي ومنع أي كان من مجرد ذكر اسمه. ولكن أبي قتل أثناء تبادل لإطلاق النار بين عشيرتين متناحرتين ومتنافستين على السوق. كان يمر مسرعاً عائداً إلى البيت حين تلقى الطلقة في صدره فمات على الفور، أما أمي فقد ظلت تبكي سنة كاملة وهي حتى اليوم تلبس الأسود حداداً على روحه الطاهرة ولكنها وجدت عزاءها فيّ. كانت تقول لي بما أنني أشبهه فهو لم يمت ولكن المسكينة كان عليها أن تفقدني أنا أيضاً.
دخلت علي امرأتان ترتديان السواد. قالتا إنهما عمتاي، لطفية وفكرية. كانتا متجهمتين، ظلتا واقفتين طوال الوقت وهما تتحدثان إلي. قالتا إن علي أن أنسى حياتي الماضية وخاصة أمي وإن علي أن أكون مطواعاً ومهذباً وأن أتأقلم سريعاً مع قوانين البيت. بعد ذلك نادتا إحدى الخادمات التي قادتني عبر أبواب عديدة وأدراج وسراديب ضيقة إلى غرفة لا تشرف على شيء، بل كانت أشبه بسجن بدون نوافذ ولكنها كانت، لحسن الحظ، ببابين فقد قالت لي الخادمة إنني أستطيع تهوية الغرفة بفتح البابين معاً فيهب تيار هواء بارد ورطب يعبق برائحة التراب.
لم أكن أتصور أنهم أتوا بي إلى هنا كي أسجن، فقد تُركت في غرفتي أسبوعاً كاملاً دون أن يكلمني أحد أو يقوم بزيارتي. ولم أكن أعرف كيف أسير عبر تلك الممرات والسراديب ولا إلى أين كانت تقود تلك الأدراج. فقط، كانت تلك الخادمة تأتيني بالطعام والشراب ثلاث مرات في اليوم، أما حاجتي فقد كنت أقضيها في مرحاض في استراحة أحد الأدراج. كنت أمضي أيامي وليالي مستلقياً على سريري، مفكراً في أمي. وفي اليوم الثامن قادتني الخادمة إلى الباحة الداخلية وطلبت مني أن أعرّض نفسي للشمس وأن ألعب مع أولاد عمومتي إن أردت ولكن، وقالتها بكثير من التحذير، علي أن أعود إلى غرفتي قبل غياب الشمس فجدي لا يحب رؤية الأطفال ولا سماع ضجيجهم حين يعود إلى البيت. تركتني الخادمة ورحلت عندها تجمع حولي عشرة أطفال أصغر مني هم أولاد وبنات أعمامي و عمّاتي وراحوا يمطرونني بالأسئلة حول حياتي السابقة، حول أمي وأبي وحول العالم الغريب عنهم الذي يقبع خارج الدار. ولكن سرعان ما ملّ الأطفال مني بسبب صمتي فراحوا يلعبون بعيداً عني، أما أنا فقد جلست وحيداً متفكراً في حالي وغصة شديدة تقبض على حنجرتي تدفعني للبكاء دون أن أجرؤ على البكاء. وقبل أن أصعد إلى غرفتي تنبهت إلى أن فتاةً في عمري كانت تتلصص علي من إحدى النوافذ لغرفة تعلو الفاصل بين الباحتين.
وفي مساء اليوم التالي سمعت خطوات تصعد الدرج. وما هي إلا لحظة حتى دخلت الخادمة نفسها وأشعلت النور. كنت خائفاً أن تكتشف عدم استغراقي في النوم حتى هذا الوقت المتأخر حسب قوانين البيت. اقتربت من سريري ولمستني. كانت هذه هي المرة الأولى التي تزورني في الليل. فتحت عيني فقالت لي همساً كعادتها إن جدي يريد مقابلتي. انتابني خوف عظيم فهذه هي المرة الأولى التي سأقابل فيها هذا الرجل الجبار. كنت قد رسمت له في عقلي صورة ترعبني إذا ما شاهدتها في منامي ولكن الصورة لم تكن تستند إلى تصور واقعي فلم يكن أحد من قبلُ قد وصفه لي فحتى أمي لم تكن قد قابلته مطلقاً.
قادتني الخادمة عبر الأدراج والممرات حتى الباحة الداخلية ثم عبرناها لنرتقي عدة درجات حجرية ذات درابزين من الحديد المشغول. أوقفتني أمام باب خشبي مزخرف لفترة كي نسترد أنفاسنا ثم نقرت عليه نقرات خفيفة وفتحته ثم دفعتني إلى الداخل. وجدت نفسي في العتبة المنخفضة عن مستوى أرضية الغرفة وفضلت البقاء هناك. كنت أحسب أنني سأتلقى الأوامر فوراً إلا أن الصمت المطبق ولفترة طويلة دفعني إلى رفع رأسي. كان هناك صفان من البشر إلى يمين وإلى يسار الغرفة. النساء إلى اليمين والرجال إلى اليسار بينما كان رجل أبيض اللحية والرأس، يعتمر طاقية قطنية بيضاء ويلف نفسه بعباءة عسليّة اللون تضفي عليه مهابة فوق مهابته، يحتل صدر الغرفة. كل النساء كن يرتدين ثياباً سوداء ويغطين شعورهن بحجاب أسود بينما الرجال يرتدون البدلات وربطات العنق السوداء. كان الجميع ينظر إلي دون أن ينبس أحد بكلمة. لم أكن أعرف أحداً منهم ولم أفرق بين أعمامي وأزواج عماتي وبينهن وبين زوجات أعمامي، إلا أنني عرفت أن ذلك الرجل المسن والمهيب هو جدي والمرأة المسنة التي تجلس قريباً منه في آخر صف النساء هي جدتي.
أشار لي جدي بيده لأقترب فتركت العتبة ووقفت في النقطة المقابلة للنقطة التي كان يجلس فيها. كنت محتاراً ماذا أفعل بيديّ فشبكتهما على بطني وظللت أنقّل ناظري بين الرجال والنساء دون أن أجرؤ على النظر في عيني الرجل المهيب. كانوا يتفحصونني وعلى الأغلب يحاولون اكتشاف ما يدل على قرابة الدم التي تربطني بهم. سألني جدي عن اسمي وعن مدرستي وإلى أي صف وصلت. ثم سألني عن مادة الحساب وعن اللغة الفرنسية إن كنت تعلمتهما جيداً. لم يسألني عن أمي أو أبي المرحوم وكأنهما لم يوجدا قط، بل أنا الذي سألته متى أستطيع رؤية أمي عندها، وبحركة بيده طلب مني الخروج فخرجت. في الخارج اصطدمت بالخادمة التي كانت تنتظرني فقادتني إلى بداية شبكة الممرات والأدراج وطلبت مني الوصول إلى غرفتي بنفسي لأنها كانت متعبة ثم رحلت. انتظرت برهة حتى غاب عني وقع أقدامها فعم الصمت جميع أرجاء الباحة فبدأتُ رحلة العودة إلى غرفتي.
اللقاء مع جميع أفراد عائلة أبي جعلني ارتاح أكثر، فها أنا ذا أعرف جدي بشكل مباشر ولم يعد هناك ضرورة لرسم صورته من خيالاتي فحسب. ولكن اللقاء ترك عندي أيضاً شعوراً بالخوف من هذه العائلة الغريبة والتي يحتل فيها جدي مكانة لم أعهدها لأبي حين كان بيننا. لم يجرؤ أحد من أعمامي أو أزواج عماتي على التفوه ولو بكلمة واحدة في وجوده وهذا بالضبط ما ضايقني وجعلني أرسم صورة فظيعة لمستقبلي إن بقيت هنا. رحت أبكي وأنا أصعد في سلسلة الأدراج والممرات إلى غرفتي فقد كنت أشعر بوحدة رهيبة وباشتياق مميت لأمي حتى إنني تساءلت بيني وبين نفسي، هل تخلت أمي عني؟
أثناء عودتي اكتشفت طاقات صغيرة هي عبارة عن فتحات تهوية للغرف السفلية كان بصيص نور يأتيني من إحداها. إلا أن الاكتشاف الذي أسعدني أكثر كان طاقة تودي إلى السطح الذي يعلو مجموعة من غرف الباحة الخارجية المخصصة لضيوف الجد والزريبة والخدم، وفي نهايته تظهر بشكل واضح ستارة الجدار العالي الذي يشرف على الشارع. استلقيت على سريري ولكنني لم أستطع النوم فقد كانت صورة جدي وباقي أفراد العائلة تعود لتبعد عن عيني النوم ولذلك فقد بكيت خوفاً وأعتقد أن أمي كانت ستعذر بكائي فقد كان الجميع يخاف جدي فما بالي أنا ابن الثالثة عشرة.
نهضت وذهبت إلى تلك الطاقة التي اعتبرتها أهم اكتشاف لي الليلة. مررت خلالها بسهولة بسبب ضعف بنيتي ثم وبقفزة صغيرة أصبحت على السطح. كان علي أن أتحرك بهدوء لكيلا أصدر أي صوت. حاولت الابتعاد قدر الإمكان عن الحافّة لئلا يشاهدني أحد من الخدم، فسرت ملتصقاً بالجدار الجانبي حتى ستارة الجدار العالي التي كانت أعلى مني بذراع. تشبثت بأعلى الستارة ونظرت إلى الأسفل فشاهدت الشارع الذي كنت قد مررت فيه أنا وأمي مئات المرات. ظللت معلقاً بالجدار مدة وقد شعرت بتحسن حالي فقد أصبح لدي أمل بمشاهدة أمي لأنني كنت على يقين من أنها ستمر يومياً من هنا.
تركت الجدار وعدت عبر الطاقة إلى الداخل. كانت الإثارة قد أطارت النوم من عيني فلم أعد فوراً إلى غرفتي. سرت في السرداب المعتم محاولاً ألا يصدر عني أي صوت. توقفت عند فتحة تهوية لإحدى الغرف، فقد كانت تشع بضوء خفيف. أدخلت رأسي فيها ونظرت، كان أحد أقربائي يتحدث مع زوجته. قال لها شيئاً طريفاً فضحكت ثم مد يده وقرصها في خدها. كنت أطل عليهما من الأعلى فقد كانت فتحة التهوية هذه قريبة من سقف الغرفة. كان قريبي يشرب شيئاً بفنجان من الصيني وكانت زوجته تقرب من فمه تفاحة وحينما يهم بقضمها كانت تبعدها وهي تضحك. طالت لعبتهما وعندما شعرتْ أنه قد ملّ اللعبة نهضت وعقدت شالاً حول خصرها وراحت ترقص له. صار يصفق لها بإيقاع راقص وهو منشرح النفس ولكنني سرعان ما مللت فأخرجت رأسي وسحبت نفسي إلى غرفتي.
في النهار نزلت إلى الباحة ومكثت هناك وحيداً فقد كان الأطفال يتلقون الدروس في الداخل على أيدي مدرسين خصوصيين، إذ أن الجد كان يرفض ذهاب أحفاده إلى المدارس. لاحظت أنني مراقَب وعندما رفعت رأسي وجدت نفس الفتاة تنظر إلي من نافذتها. لم تنسحب حين رأتني أنظر إليها بل ظلت في مكانها ثم ابتسمت لي. ابتسمت لها بدوري ولكن هذه الابتسامات جعلتني أقلق، فقد لاحظت أنها قد تراني أمشي على السطح إذا ما استدارت بزاوية معينة باتجاه الباحة الخارجية.
انتظرت ريثما تأتي الخادمة وتنزل بأطباق الغداء، حينئذ أسرعت إلى طاقة السطح. خرجت وأسرعت بالابتعاد عن حرفها وهناك تأكدت أن الفتاة ليست على نافذتها فسرت حتى الستارة فتعلقت بها ورحت أتطلع إلى الشارع. كان هناك عدد من المارة وعربة يجرها حصان واحد تأتي من بعيد بينما امرأة فقيرة ترتدي ملحفة سوداء عتيقة جلست تتسول مسندة ظهرها إلى الجدار المقابل. مر وقت طويل وأنا على هذه الحالة حتى تعب ساعداي اللذان كنت أضع ثقل جسمي عليهما. كدت أنزل لولا أنني لاحظت المتسولة وهي ترفع النقاب الأسود عن وجهها وتتطلع نحوي. يا لله، فقد كانت أمي وقد تنكرت بثياب امرأة متسولة. أشرت لها فأشارت لي واضطررت لأن أرفع نفسي أكثر بناء على رغبتها لكي تراني جيداً. بقينا هكذا مدة ونحن نتحدث بالإشارات ونبكي. ودعتها بعد أن اتفقنا على أن نلتقي كل يوم في نفس الموعد ثم نزلت عن الستارة وعدت إلى غرفتي.
في الحقيقة انقلبت الدموع التي زرفتها أثناء مشاهدتي لأمي إلى شعور بالارتياح انتابني لأنني تمكنت أخيراً من مخادعة قوانين البيت وإيجاد طريقة للتواصل معها. في الليل لم يأتني النوم بسبب انشغال ذهني رغم أن النوم كان سيقرب ساعة لقائي بها من جديد فنهضت ورحت أتفحص فتحات التهوية علّني أجد في إحداها نوراً فأتسلى بمراقبة أقاربي. ولكن للأسف، فقد كانت جميعها مظلمة وقد خمنت السبب، فيما أعتقد، بأن جميع الكبار يتناولون العشاء في هذا الوقت على مائدة جدي ثم سيجلسون معه للتداول في أمورهم إن لم أقل في الاستماع إليه بأفواه مطبقة قبل أن يتفرقوا إلى غرفهم. صدق حدسي فعندما عدت إلى الفتحات قبيل منتصف الليل وجدت النور يتسرب من معظمها. انتقيت فتحة لا على التعيين ثم دسست رأسي فيها. كدت لا أصدق عيني وكادت صرخة تنطلق من فمي دون إرادتي فتكشفني. كانت الزوجة ملقاة على أرض الغرفة ممزقة الثياب بينما غطت الدماء جزءاً من وجهها. كانت المسكينة تتلوى بينما الزوج يدخن بشراهة وهو يحوم في أرجاء الغرفة. بعد قليل دخلت ثلاث نساء ورحن يهتممن بها فقد كانت فقدت الوعي بينما راحت إحداهن توجه اللوم للزوج على فعلة ما عملها لزوجته في حين كان يخرج زجاجة خمر ويعب منها. كل الأحاديث كانت تجري همساً لأن على جدي ألا يعرف ما يجري. أخيراً استطاعت النساء الثلاث إخراج المرأة المضروبة من الغرفة فبقي قريبي وحيداً بصحبة زجاجة الخمر. جلس قبالتي مباشرة ونظر باتجاهي فسحبت رأسي بسرعة البرق وأنا على يقين من أنه شاهدني. مكثت فترة قابعاً قرب الفتحة محاولاً التقاط أية حركة تنبئ بأنه قد شاهدني فعلاً ولكنني لم ألحظ شيئاً غير عادي فعدت للنظر من خلال الفتحة فوجدته يعب الخمر مغمض العينين.
سارت الحياة في البيت كالمعتاد وقد حاولت أن اكتشف ما الذي جرى للمرأة التي ضربها زوجها ومن تكون ولكنني لم أفلح. ظل كل شيء هادئاً ومخادعاً حتى أنني شككت بما رأيت. والشيء الصحيح الذي لا مجال لنفيه أو التشكيك فيه هو أنني صرت ألتقي بأمي يومياً، هي تجلس على الرصيف مرتدية ثياب امرأة متسولة وأنا معلق على ستارة السطح. أخبرتها مرة أنني لم أعد أطيق المكوث أكثر فطلبت مني أن أصبر وأن أظهر لأهل البيت الاستسلام والسكينة وحين يدَعونني أخرج من البيت فلسوف تكون في انتظاري. نزلت في تلك المرة عن الستارة وأقعيت بجانبها أبكي، فقد كان البكاء الوسيلة الوحيدة المتبقية لي لنسيان قهري. وعندما كنت متجهاً إلى الطاقة لأنزل من السطح تسمرت فجأة في مكاني فقد رأيت تلك الفتاة واقفة على نافذتها بزاوية كنت أخاف أن تقف فيها فتراني. تبسمت لي ولكنني، بسبب رعبي من انكشاف أمري، نسيت أن ابتسم لها بل أسرعت بالدخول في الطاقة والهرب إلى غرفتي.
أمضيت باقي النهار في انتظار من سيأتي ليعاقبني على ما كنت أفعل ولكن أحداً لم يأت. وفي المساء استدعاني جدي إلى محفله ذاته ليخبرني بأن مدرساً سيأتي إلى البيت ابتداءً من الأسبوع القادم ليعلمني أصول مسك الدفاتر التجارية، فقد أصبحت كبيراً وعلي أن أعمل كما قال، وهو يقصد بالتحديد العمل في مصالحه التجارية. هززت رأسي دون أن أنبس بكلمة ثم نقّلت ناظري في وجوه أقربائي من الرجال والنساء فعرفت رجلين وامرأتين، واحدة كان يدللها زوجها والأخرى تلك التي أغمي عليها من شدة الضرب. كان حول إحدى عينيها كدمة زرقاء حاولت إخفاءها بالمساحيق ولكنني ميزتها بسهولة. ارتبكت المرأة من نظرتي التي تباطأت عندها وبالتحديد عند طرف وجهها الأيسر فأطرقت ثم رفعت يدها تحك بظفرها جبينها لتخفي وجهها عني. طردني جدي بحركة ملولة من يده فخرجت. لم أجد الخادمة في انتظاري فتمهلت قليلاً ثم اقتربت من المعبر الذي يوصل ما بين الباحتين وألقيت نظرة نحو الباحة الخارجية فشاهدت أحد الخدم يعتني بالعربة بينما كنت أسمع صوت الحصان في الزريبة وهو يضرب الأرض بحافره وينخر.
صعدت إلى غرفتي ولم أتوقف عند فتحات التهوية فقد كانت معتمة. كان علي أن أمضي وقتاً في غرفتي قبل أن يحين موعد عودة أقربائي إلى غرفهم، وبينما كنت أقترب من باب غرفتي تجمدت من الرعب. وربما أطلقت صرخة قصيرة فقد كان هناك شخص ملتصقاً بالجدار يحاول الاختباء. كدت أعود من حيث أتيت ولكن صوتاً أنثوياً ناعماً طلب مني ألا أخاف لأنها "هي". قالتها هكذا.. " لا تخف، أنا ! ". خمنت أنها ربما كانت نفس الفتاة التي شاهدتها عدة مرات تنظر إلي من نافذتها. خرجتْ من مخبئها في الوقت الذي اقتربت فيه منها ولكنني لم أميزها في الظلام فسرت باتجاه الغرفة حيث الإضاءة أفضل فقد كنت قد تركت النور ساطعاً والباب مفتوحاً. تبعتني وعرّضت وجهها للنور فعرفتها على الفور. كانت هي نفسها كما خمنت. طلبت منها الدخول فرفضت وفضلت أن نعود إلى الممر المعتم لنتحدث. عدنا إلى حيث كانت مختبئة. استندتْ إلى الجدار بينما استندتُ إلى الجدار المقابل ورحنا نتحدث. قالت إن اسمها فيروز وإنها ابنة عمتي لطفية التي ترملت منذ مدة والتي كانت إحدى المرأتين اللتين قابلتهما أول يوم. قالت إنها تعطف علي فهي نفسها تكره هذا البيت وتتمنى لو تهرب ذات يوم. اطمأننت لها فحدثتها عما شاهدت من إحدى الفتحات وكيف أن امرأة قد ضربت حتى فقدت الوعي فأخبرتني أن ذاك الرجل هو خالها (أي عمي) سليم وهو معتاد على ضرب زوجته إلى أن تفقد وعيها وقالت إنه قد طعن زوجته الأولى حتى الموت وإن جدي استطاع لفلفة الموضوع مع الحكومة ومع أهلها. أعلمتني أيضاً أن لي عماً آخر وهو الأكثر بدانة من الجميع واسمه جابر وهو قاسٍ أيضاً ولكنه لم يصل إلى حد القتل. قالت إنه يحب أيضاً تعذيب امرأته ثم أعلمتني أن باقي النساء في البيت هن خالاتها أي عماتي وباقي الرجال هم أزواجهن. وأكثر ما أرعبني هو اعترافها أن خالها سليم هو الذي قتل أباها في السرير بينما كان نائماً إلى جوار أمها.
اكتشفتُ أنني قد بللت سروالي بسبب رعبي الشديد مما سمعت. اقتربت فيروز وأمسكت بيدي وطلبت مني أن أتبعها ولكنني تمنعت خوفاً من أن ينكشف البلل على سروالي إلا أنها أصرت فتبعتها. دخلتْ إلى غرفتي ثم خرجتْ من الباب الآخر فسرنا في سرداب متعرج ونزلنا عشرين درجة ثم سرنا في ممر آخر ومن ثم صعدنا درجاً ثانياً. توقفت في نهايته وطلبت مني السير بحذر شديد. في نهاية الممر كانت هناك نافذة مضاءة بشكل خفيف. اقتربنا منها بحذر ودون حتى أن نتنفس. نظرت فيروز أولاً ثم ابتعدت عن النافذة وطلبت مني أن ألقي نظرة. اقتربتُ ونظرتُ. كدت أطلق صرخة رعب لولا يد فيروز ويدي اللتين أطبقتا على فمي. كانت هناك امرأة مشوهة الوجه والجسد أقرب إلى الحيوان منها إلى الانسان متكومة على السرير وهي تسدد إلينا نظرة وحشية. كانت ضئيلة الجسم، نبت الشعر على يديها وساعديها. لم أستطع إطالة النظر إلى ذاك المخلوق المخيف فأخفيت عينيّ بيديّ ثم ركضت عائداً من حيث أتينا فلحقت بي فيروز ولولاها لكنت تعثرت وتدحرجت إلى أسفل الدرج.
لم تستطع فيروز اللحاق بي إلى غرفتي فقد كان عليها العودة قبل أن يتفرق محفل جدي وتعود أمها وأبوها فيكتشفان غيابها. وفي الصباح، كنت أشعر بوهن في جسمي وأعصابي بسبب جرعة الرعب الهائلة التي نلتها وعدم تمكني من النوم، فقد كان الخوف قد احتل كياني وكنت أحسب عند أية حركة أو طقطقة أن عمي سليم قادم ليقتلني أو تلك المرأة الوحشية قادمة لتأكلني، وقد أسرفت في البكاء حين كنت متعلقاً بستارة السطح أتكلم مع أمي بالإشارات وقد حاولت المسكينة أن تواسيني دون أن تفهم إشاراتي وأنا أصف لها ما سمعت ورأيت ليلة البارحة. وفي المساء انتظرت مجيء فيروز بفارغ الصبر فقد كنت أتحرق شوقاً لمعرفة سبب وجود تلك المرأة الوحشية في البيت فأخبرتني فور مجيئها بأنها عمّة من عماتي وقد ولدت على هذه الشاكلة وقد أراد جدي وعمّاي قتلها أكثر من مرة إلا أن جدتي كانت تمنعهم وتقول إن رزقهم الذي تضاعف عشرات المرات حين ولدتْ سوف يزول ويتحولون جميعاً إلى فقراء إذا ما حدث لها مكروه.
جلست متعباً وخائفاً وكلي قناعة أنني ميت لا محالة، أو على أقل تقدير طريح سجن جدي الرهيب. كنت قانطاً من أية رحمة وقد اسودت الدنيا في عينيّ أنا ابن الثالثة عشرة. إلا أن فيروز همست لي ونحن جالسان في الممر يضيئنا نور غرفتي الذي كان بابها يسكبه كحزمة لها شكل هندسي مؤلف من سطوحٍ متوازية. فجأة همست لي ابنة عمتي وهي تمد لي قطعةً معدنيةً لها شكل مفتاح هائل الحجم:
- لم لا تهرب وتأخذني معك؟
كان لكلمة الهرب صدى مدوٍ في رأسي. لماذا لا أهرب؟ هكذا تساءلت وأنا أخطف مفتاح البوابة الخارجي من يد فيروز. كان ثقيلاً وبارداً لم تستطع يدا تلك الصبية أن تدفئه. وافقت فوراً على فكرة الهرب ثم شرعت في طرح الأسئلة لكي أنظم في عقلي الفكرة جيداً. طرحت عليها كل الأسئلة التي خطرت في بالي آنئذ فعرفت أن أفضل وقت للهروب هو قبيل آذان الفجر بدقائق، ففي هذا الوقت يكون الجميع نياماً بعمق وآذان الفجر سيوقظ بعض الخدم. يكفي أن نقفل البوابة من الخارج بحرص شديد لأن نكون في أمان لمدة ساعات لأنهم لن يكتشفوا غيابنا إلا في وقت متأخر من الصباح.
في اليوم التالي ألقيت لأمي بورقة مطويّة كتبت فيها ماذا عليها أن تفعل وعندما قرأتها ارتبكت وحاولت أن تثنيني عن الهرب، إلا أنها وتحت إصراري أشارت لي أنها ستنتظرنا الليلة قبيل الفجر في نفس المكان ثم نهضتْ وابتعدتْ، أما أنا فقد عدت إلى غرفتي وأمضيت باقي النهار والليل مستلقياً في السرير مرتجفاً خوفاً من افتضاح أمري. وعندما صعدت الخادمة بالطعام ووجدتني على هذه الحال حسبتني مريضاً فجاءت لي ببعض حبوب الكينا لأبلعها فجاريتها بذلك فشعرت بمرارة فظيعة في فمي وحلقي. خفت أن تصعد إلي مراراً ولكنها اكتفت بالمجيء بعد العشاء لتنزل بالأطباق التي لم أكن قد مسستها إلا أنها اطمأنت إلى أنني غير محموم فلم تعد إلي.
كنت خائفاً من أن أنام ويفوتني موعد الهروب ويبدو أن فيروز قد ساورها نفس الخوف، وأستطيع القول بأنني أمضيت أطول ليلة في حياتي كلها مستلقياً في سريري في الظلام. وقد شعرت في لحظة ما أن الوقت قد حان فارتديت ثيابي وأقعيت في زاوية مظلمة انتظر نزول فيروز من غرفتها ولكنني كنت مخطئاً فقد كان الوقت أبكر مما يجب بساعة ونصف تقريباً وعندما جاءت فيروز أخيراً كانت مفاصلي فقدت مرونتها. لم نتكلم ولا كلمة واحدة بل أشارت إلي لأتبعها فمشيت خلفها في المسارات المظلمة دون أن يصدر عنا أي صوت. عبرنا إلى الباحة الخارجية وهناك شعرت أن المسافة التي تفصلنا عن البوابة لن تنتهي أبداً ولأول مرة أيضاً حسبت أن للسكون ضجيجاً في الآذان وأن العتمة ليست ظلاماً في المطلق يمكن الاختباء فيها بأمان.
كنت أعرف أن فيروز أكثر شجاعة مني ولكنني لم أكن أعرف أنها أقوى مني إلا حين فشلتُ في فتح الباب الصغير في البوابة الكبيرة فأبعدتني لتقوم بالعمل على أكمل وجه. وعندما أصبحنا أنا وفيروز في الخارج بدون أي متاع، كانت الأمور قد جرت حسب تخطيطنا ودون أية مفاجآت غير مرغوبة. أقفلنا باب البوابة الصغير والخاص بالأفراد بذلك المفتاح الضخم ومشينا بهدوء لننضم إلى أمي التي أجّلت قبلاتها إلى بعد حين. ولكنها لم تقدنا إلى البيت بل إلى أحد كراجات السفر حيث استقللنا البوسطة إلى مدينة أخرى وهناك استأجرنا غرفة ثم بحثت أمي عن عمل كمدرسة للغة الفرنسية فوجدته بسهولة. أما أنا فقد تابعت دراستي وحصلت على شهادة البكالوريا ثم على شهادة المحاماة ثم تزوجتُ فيروز.